فصل: تفسير الآية رقم (91)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا قَدَرُواْ الله‏}‏ لما حكى سبحانه عن إبراهيم عليه السلام أنه ذكر دليل التوحيد وإبطال الشرك، وقرر جل شأنه ذلك الدليل بأوضح وجه شرع سبحانه بعد في تقرير أمر النبوة لأن مدار أمر القرآن على إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وبهذا ترتبط الآية بما قبلها كما قال الإمام وأولى منه ما قيل‏:‏ إنه سبحانه ‏(‏لما بين‏)‏ شأن القرءان العظيم وأنه نعمة جليلة منه تعالى على كافة الأمم حسبما نطق به قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏ عقب ذلك ببيان غمطهم إياها وكفرهم بها على وجه سرى ذلك إلى الكفر بجميع الكتب الإلهية، وأصل القدر معرفة المقدار بالسبر ثم استعمل في معرفة الشيء على أتم الوجوه حتى صار حقيقة فيه، وقال الواحدي‏:‏ يقال قدر الشيء إذا سبره وأراد أن يعلم مقداره يقدره بالضم قدراً، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن غم عليكم فاقدروا له» أي فاطلبوا أن تعرفوه، ثم قيل‏:‏ لمن عرف شيئاً هو يقدر قدره وإذا لم يعرفه بصفاته إنه لا يقدر قدره‏.‏

واختلف التفسير هنا فعن الأخفش أن المعنى ما عرفوا الله تعالى ‏{‏حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ أي حق معرفته‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما عظموا الله تعالى حق تعظيمه‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ ما وصفوه حتى صفته والكل محتمل‏.‏ واختار بعض المحققين ما عليه الأخفش لأنه الأوفق بالمقام أي ما عرفوه سبحانه معرفته الحق في اللطف بعباده والرحمة عليهم ولم يراعوا حقوقه تعالى في ذلك بل أخلوا بها إخلالاً عظيماً ‏{‏إِذْ قَالُواْ‏}‏ منكرين لبعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام وإنزال الكتب كافرين بنعمه الجليلة فيهما أو ما عرفوه جل شأنه حق معرفته في السخط على الكفار وشدة بطشه بهم حين اجترؤا على إنكار ذلك بقولهم‏:‏ ‏{‏مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مّن شَىْء‏}‏ أي شيئاً من الأشياء فمن للتأكيد ونصب ‏{‏حَقّ‏}‏ على المصدرية وهو كما قال أبو البقاء في الأصل صفة للمصدر أي قدره الحق فلما أضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه‏.‏ و‏{‏إِذْ‏}‏ ظرف للزمان الزمان وهل فيها معنى العلة هنا أم لا‏؟‏ احتمالان، وأبو البقاء يعلقها بقدروا وليس بالمتعين‏.‏ وقرىء ‏{‏قَدْرِهِ‏}‏ بفتح الدال‏.‏

واختلف في قائلي ذلك القول الشنيع، فأخرج أبو الشيخ عن مجاهد أنهم مشركو قريش‏.‏ والجمهور على أنهم اليهود ومرادهم من ذلك الطعن في رسالته صلى الله عليه وسلم على سبيل المبالغة فقيل لهم على سبيل الالزام ‏{‏قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذى جَاء بِهِ موسى‏}‏ فإن المراد أنه تعالى قد أنزل التوراة على موسى عليه السلام ولا سبيل لكم إلى إنكار ذلك فلم لا تجوزون إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وبهذا ينحل استشكال ما عليه الجمهور بأن اليهود يقولون إن التوراة كتاب الله تعالى أنزله على موسى عليه السلام فكيف يقولون‏:‏ ‏{‏مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مّن شَىْء‏}‏ وحاصل ذلك أنهم أبرزوا إنزال القرآن عليه عليه الصلاة والسلام في صورة الممتنعات حتى بالغوا في إنكاره فألزموا بتجويزره، وقيل‏:‏ إن صدور هذا القول كان عن غضب وذهول عن حقيقته، فقد أخرج ابن جرير والطبراني عن سعيد بن جبير أن مالك بن الصيف من أحبار اليهود قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنشدك الله تعالى الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله تعالى يبغض الحبر السمين‏؟‏ فأنت الحبر السمين قد سمنت من مالك الذي يطعمك اليهود فضحك القوم فغضب فالتفت إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال‏:‏ ما أنزل الله على بشر من شيء فقال له قومه‏:‏ ما هذا الذي بلغنا عنك‏؟‏ قال‏:‏ إنه أغضبني فنزعوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف فأنزل الله تعالى هذه الآية، واعترض بأن هذا لا يلائم الإلزام بإنزال التوراة على موسى عليه السلام فقد اعترف القائل بأنه إنما صدر ذلك عنه من الغضب فليفهم‏.‏

ولا يرد أن هذه السورة مكية والمناظرات التي وقعت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين اليهود كلها مدنية فلا يتأتى القول بأن الآية نزلت في اليهود لما أخرج أبو الشيخ عن سفيان والكلبي أن هذه الآية مدنية، واستشكل أيضاً قول مجاهد بأن مشركي قريش كما ينكرون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ينكرون رسالة سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكيف يحسن إيراد هذا الإلزام عليهم‏.‏ ودفع بأن ذلك لما أنه كان إنزال التوراة من المشاهير الذائعة ولذلك كانوا يقولون‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 157‏]‏ حسن إلزامهم بما ذكر، ومع هذا ما ذهب إليه الجمهور أحرى بالقبول‏.‏

ومن الناس من ادعى أن في الآية حجة من الشكل الثالث وهي أن موسى بشر وموسى أنزل عليه كتاب ينتج أن بعض البشر أنزل عليه كتاب وتؤخذ الصغرى من قوة الآية والكبرى من صريحها والنتيجة موجبة جزئية تكذب السالبة الكلية التي ادعتها اليهود وهي لا شيء من البشر أنزل عليه كتاب المأخوذة من قولهم ‏{‏مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مّن شَىْء‏}‏ وإنما نتجت هاتان الشخصيتان مع أن شرط الشكل الثالث كلية إحدى المقدمتين لأن الشخصية عندهم في حكم الكلية‏.‏ وقال الإمام‏:‏ «تفلسف حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة ‏[‏فقال‏:‏‏]‏ إن هذه الآية مبنية على الشكل الثاني من الأشكال المنطقية، وذلك لأن حاصلها يرجع إلى أن موسى أنزل الله تعالى عليه شيئاً و‏(‏ واحد‏)‏ من البشر ما أنزل الله تعالى عليه شيئاً ينتج ‏(‏من الشكل الثاني‏)‏ أن موسى ما كان من البشر وهذا خلف محال، وهذه الاستحالة ليست بحسب شكل القياس ولا بحسب صحة المقدمة الأولى فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة الثانية وهي قولهم‏:‏ ‏{‏أَنزَلَ الله وَلاَ‏}‏ الخ فوجب القول بانها كاذبة» وفي ذلك تأمل فليتأمل‏.‏

ثم إن وصف الكتاب بالوصول إليهم لزيادة التقريع وتشديد التبكيت، وكذا تقييده بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏نُوراً وَهُدًى‏}‏ فإن كونه بينا بنفسه ومبيناً لغيره مما يؤكد الإلزام أي توكيد، وانتصابهما على الحالية من الكتاب والعامل ‏{‏أَنَزلَ‏}‏ أو من ضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ والعامل جاء، والظاهر تعلق الظرف بجاء، وجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف وقع حالاً من الفاعل، واللام في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِلنَّاسِ‏}‏ إما متعلق بهدى أو بمحذوف وقع صفة له أي هدى كائناً للناس، والمراد بهم بنو إسرائيل، وقيل‏:‏ هم ومن عداهم، ومعنى كونه هدى لهم أنه يرشد من وقف عليه بالواسطة أو بدونها إلى ما ينجيه من الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَجْعَلُونَهُ قراطيس‏}‏ استئناف لا موضع له من الإعراب مسوق لنعي ما فعلوه من التحريف والتغيير عليهم‏.‏ وجوز أن يكون في موضع نصب على الحال كما تقدم أي تضعونه في قراطيس مقطعة وأوراق مفرقة بحذف الجار بناء على تشبيه القراطيس بالظرف المبهم كما قيل‏.‏ وقال أبو علي الفارسي‏:‏ المراد تجعلونه ذا قراطيس، وجوز غير واحد عدم التقدير على معنى تجعلونه نفس القراطيس، وفيه زيادة توبيخ لهم بسوء صنيعهم كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب ونزلوه منزلة القراطيس الخالية عن الكتابة، وليس المراد على الأول توبيخهم بمجرد وضعهم له في قراطيس إذ كل كتاب لا بد وأن يودع في القراطيس بل المراد التوبيخ على الجعل في قراطيس موصوفة بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً‏}‏ فالجملة المعطوفة والمعطوف عليها في موضع الصفة لقراطيس، والعائد على الموصوف من المعطوفة محذوف أي كثيراً منها، والمراد من الكثير نعوت النبي صلى الله عليه وسلم وسائر ما كتموه من أحكام التوراة كرجم الزاني المحصن‏.‏ وهذا خطاب لليهود بلا مرية وكانوا يفعلون ذلك مع عوامهم متواطئين عليه، وهو ظاهر على تقدير أن يكون الجواب السابق لهم لأن مشافهتهم به يقتضي خطابهم، ومن جعل ما تقدم للمشركين حمل هذا على الإلتفات لخطاب اليهود حيث جرى ذكرهم‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الأفعال الثلاثة بياء الغيبة‏.‏

وضمير الجمع لليهود أيضاً إلا أنه التفت عن خطابهم تبعيداً لهم بسبب ارتكابهم القبيح عن ساحة الخطاب ولذا خاطبهم حيث نسب إليهم الحسن في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ‏}‏ وهذا أحسن كما قيل من الإلتفات على القول الأول لأن فيه نقلاً من الكلام مع جماعة هم المشركون إلى الكلام مع جماعة أخرى هم اليهود قبل إتمام الكلام الأول لأن إتمامه بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلِ الله‏}‏ الخ بخلاف الإلتفات على القول الثاني، والجملة على ما قال أبو البقاء في موضع الحال من فاعل ‏{‏تَجْعَلُونَهُ‏}‏ بإضمار قد أو بدونه على اختلاف الرأيين، وعليه كما قال شيخ الإسلام «فينبغي أن يجعل ما عبارة عما أخذوه من الكتاب من العلوم والشرائع ليكون التقييد بالحال مفيداً لتأكيد التوبيخ وتشديد التشنيع لا على ما تلقوه من جهة النبي صلى الله عليه وسلم زيادة على ما في التوراة وبياناً لما التبس عليهم وعلى آبائهم من مشكلاتها حسبما ينطق به قوله تعالى‏:‏

‏{‏إِنَّ هذا القرءان يَقُصُّ على بَنِى إسراءيل أَكْثَرَ الذى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 76‏]‏ لأن تلقيهم ذلك ليس مما يزجرهم عما صنعوا بالتوراة فتكون الجملة حينئذ خالية عن تأكيد التوبيخ فلا تستحق أن تقع موقع الحال بل الوجه حينئذ أن يكون استئنافاً مقرراً لما قبله من مجيء الكتاب بطريق التكملة والاستطراد والتمهيد لما يعقبه من مجيء القرآن، ولا سبيل كما قال إلى جعل ما عبارة عما كتموه من أحكام التوراة كما يفصح عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 15‏]‏ فإن ظهوره وإن كان مزجرة لهم عن الكتم مخافة الإفتضاح ومصححاً لوقوع الجملة في موقع الحال لكن ذلك مما يعلمه الكاتمون حتماً»‏.‏ وجوز أن تكون الجملة معطوفة على ‏{‏مَنْ أَنزَلَ الكتاب‏}‏ من حيث المعنى أي قل من أنزل الكتاب ومن علمكم ما لم تعلموا وفيه بعد‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد أن هذا خطاب للمسلمين‏.‏ وروي عنه أنه قرأ ‏(‏وعلمتم معشر العرب ما لم‏)‏ الخ وهو عند قوم اعتراض للإمتنان على النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه بهدايتهم للمجادلة بالتي هي أحسن‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إن الناس فيما تقدم عام يدخل فيهم المسلمون واليهود، و‏{‏عَلِمْتُمُ‏}‏ عطف على ‏{‏تَجْعَلُونَهُ‏}‏ والخطاب فيه للناس باعتبار اليهود وفي ‏{‏عَلِمْتُمُ‏}‏ لهم باعتبار المسلمين ولا يخفى أنه تكلف‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلِ الله‏}‏ أمر لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب السؤال السابق عنهم إشارة إلى أنهم ينكرون الحق مكابرة منهم، وإشعاراً بتعين الجواب وإيذاناً بأنهم أفحموا، ولم يقدروا على التكلم أصلاً، والاسم الجليل إما فاعل فعل مقدر أو مبتدأ خبره جملة مقدرة أي أنزل الله أو الله تعالى أنزله، والخلاف في الأرجح من الوجهين مشهور ‏{‏ثُمَّ ذَرْهُمْ‏}‏ أي دعهم ‏{‏فِى خَوْضِهِمْ‏}‏ أي باطلهم فلا عليك بعد إلزام الحجة وإلقام الحجر ‏{‏يَلْعَبُونَ‏}‏ في موضع الحال من هم الأول، والظرف صلة ‏{‏ذَرْهُمْ‏}‏ أو ‏{‏يَلْعَبُونَ‏}‏ أو حال من مفعول ‏{‏ذَرْهُمْ‏}‏ أو من فاعل ‏{‏يَلْعَبُونَ‏}‏ وجوز أن يكون في موضع الحال من هم الثاني، وهو في المعنى فاعل المصدر المضاف إليه، والظرف متصل بما قبله إما على أنه لغو أو حال من هم ولا يجوز حينئذ جعله متصلاً بيلعبون على الحالية أو اللغوية لأنه يكون معمولاً له متأخراً عنه رتبة ومعنى مع أنه متقدم عليه رتبة أيضاً لأن العامل في الحال عامل في صاحبها فيكون فيه دور وفساد في المعنى‏.‏ والآية عند بعض منسوخة بآية السيف، واختار الإمام عدم النسخ لأنها واردة مورد التهديد وهو لا ينافي حصول المقاتلة فلم يكن ورود الآية الدالة على وجوبها رافعاً للمدلول فلم يحصل النسخ فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏وهذا كتاب أنزلناه‏}‏ تحقيق لإنزال القرآن الكريم بعد تقرير إنزال ما بشر به من التوراة وتكذيب لكلمتهم الشنعاء إثر تكذيب، وتنكير ‏{‏كِتَابٌ‏}‏ للتفخيم، وجملة ‏{‏أنزلناه‏}‏ في موضع الرفع صفة له وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مُّبَارَكٌ‏}‏ أي كثير الفائدة والنفع لاشتماله على منافع الدارين وعلوم الأولين والآخرين صفة بعد صفة‏.‏ قال الإمام‏:‏ «جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عن هذا الكتاب المتمسك به يحصل به عز الدنيا وسعادة الآخرة» ولقد شاهدنا والحمد لله عز وجل ثمرة خدمتنا له في الدنيا فنسأله أن لا يحرمنا سعادة الآخرة إنه البر الرحيم‏.‏ وقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏مُّصَدّقُ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ صفة أخرى، والإضافة على ما نص عليه أبو البقاء غير محضة، والمراد بالموصول إما التوراة لأنها أعظم كتاب نزل قبل ولأن الخطاب مع اليهود، وأما ما يعمها وغيرها من الكتب السماوية وروي ذلك عن الحسن، وتذكير الموصول باعتبار الكتاب أو المنزل أو نحو ذلك، ومعنى كونها بين يديه أنها متقدمة عليه فإن كل ما كان بين اليدين كذلك وتصديقه للكل في إثبات التوحيد والأمر به ونفي الشرك والنهي عنه وفي سائر أصول الشرائع التي لا تنسخ‏.‏

‏{‏وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى‏}‏ قيل‏:‏ عطف على ما دل عليه صفة الكتاب كأنه قيل‏:‏ أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدمه والإنذار‏.‏ واختار العلامة الثاني كونه عطفاً على صريح الوصف أي كتاب مبارك وكائن للإنذار، وادعى أنه لاحاجة مع هذا إلى ذلك التكلف فإن عطف الظرف على المفرد في باب الخبر والصفة كثير، ودعوى أن الداعي إليه عرو تلك الصفات السابقة عن حرف العطف واقتران هذا به تستدعي القول بأن الصفات إذا تعددت ولم يعطف أولها يمتنع العطف أو يقبح والواقع خلافه، والأولى ما يقال‏:‏ إن الداعي أن اللفظ والمعنى يقتضيانه، أما المعنى فلأن الإنذار علة لإنزاله كما يدل عليه ‏{‏وأوحى الي هذا القرآن لأنذركم به‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏ ولو عطف لكان على أول الصفات على الراجح في العطف عند التعدد، ولا يحسن عطف التعليل على المعلل به ولا الجار والمجرور على الجملة الفعلية‏.‏ فإنه نظير هذا رجل قام عندي وليخدمني وهو كما ترى‏.‏ ومنه يعلم الداعي اللفظي وجوز أن يكون علة لمحذوف يقدر مؤخراً أو مقدماً أي ولتنذر أنزلناه أو وأنزلناه لتنذر، وتقديم الجار للاهتمام أو للحصر الإضافي، وأن يكون عطفاً على مقدر أي لتبشر ولتنذر، وأياً ما كان ففي الكلام مضاف محذوف أي أهل أم القرى، والمراد بها مكة المكرمة، وسميت بذلك لأنها قبلة أهل القرى وحجهم وهم يتجمعون عندها تجمع الأولاد عند الأم المشفقة ويعظمونها أيضاً تعظيم الأم، ونقل ذلك عن الزجاج والجبائي، ولأنها أعظم القرى شأناً فغيرها تبع لها كما يتبع الفرع الأصل‏.‏

وقيل لأن الأرض دحيت من تحتها فكأنها خرجت من تحتها كما تخرج الأولاد من تحت الأم أو لأنها مكان أول بيت وضع للناس‏.‏ ونقل ذلك عن السدي وقرأ أبو بكر عن عاصم ‏{‏لّيُنذِرَ‏}‏ بالياء التحتية على الإسناد المجازي للكتاب لأنه منذر به‏.‏

‏{‏وَمَنْ حَوْلَهَا‏}‏ من أهل المدر والوبر في المشارق والمغارب لعموم بعثه صلى الله عليه وسلم الصادع بها القرآن في غير آية، واللفظ لا يأبى هذا الحمل فلا متمسك بالآية لطائفة من اليهود زعموا أنه صلى الله عليه وسلم مرسل للعرب خاصة، على أنه يمكن أن يقال‏:‏ خص أولئك بالذكر لأنهم أحق بإنذاره عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 214‏]‏ ولذا أنزل كتاب كل رسول بلسان قومه ‏{‏والذين يُؤْمِنُونَ بالاخرة‏}‏ وبما فيها من الثواب والعقاب، ومن اقتصر على الثاني في البيان لاحظ سبق الإنذار ‏{‏يُؤْمِنُونَ بِهِ‏}‏ أي بالكتاب، قيل‏:‏ أو بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنهم يرهبون من العذاب ويرغبون في الثواب ولا يزال ذلك يحملهم على النظر والتأمل حتى يؤمنوا به ‏{‏وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ‏}‏ يحتمل أن يراد بالصلاة مطلق الطاعة مجازاً أو اكتفى ببعضها الذي هو عماد الدين وعلم الإيمان ولذا أطلق على ذلك الإيمان مجازاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 341‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً‏}‏ كالذين قالوا ‏{‏مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مّن شَىْء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏ ‏{‏أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ‏}‏ من جهته تعالى ‏{‏وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ‏}‏ أي والحال أنه لم يوح إليه ‏{‏شَىْء‏}‏ كمسيلمة‏.‏ والأسود العنسي ‏{‏وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ الله‏}‏ أي أنا قادر على مثل ذلك النظم كالذين قالوا‏:‏ ‏{‏لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 31‏]‏ وتفسير الأول‏:‏ بما ذكرناه لم نقف عليه لغيرنا، وتفسير الثاني‏:‏ ذهب إليه الزمخشري وغيره وتفسير الثالث‏:‏ ذهب إليه الزجاج ومن وافقه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن جريج أن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْء‏}‏ نزلت في مسيلمة الكذاب والأخير نزل في عبد الله بن سعد بن أبي سرح وجعل بعضهم على هذا عطف ‏{‏أَوْ قَالَ‏}‏ الأول على ‏{‏افترى‏}‏ الخ من عطف التفسير‏.‏

وتعقب بأنه لا يكون بأو، واستحسن أنه من عطف المغاير باعتبار العنوان وأو للتنويع يعني أنه تارة ادعى أن الله تعالى بعثه نبياً وأخرى أن الله تعالى أوحى إليه وإن كان يلزم النبوة في نفس الأمر الإيحاء ويلزم الإيحاء النبوة، ويفهم من صنيع بعضهم أن أو بمعنى الواو، وأما ابن أبي سرح فلم يدع صريحاً القدرة ولكن قد يقتضيها كلامه على ما يفهم من بعض الروايات، وفسر بعضهم الثاني بعبد الله ودعواه ذلك على سبيل الترديد، فقد روي أن عبد الله بن سعد كان قد تكلم بالإسلام فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فكتب له شيئاً فلما نزلت الآية في المؤمنين ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 12‏]‏ أملاها عليه فلما انتهى إلى قوله سبحانه ‏{‏ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً‏}‏ عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 14‏]‏ فقال رسول الله‏:‏ هكذا أنزلت عليَّ فشك حينئذ وقال‏:‏ لئن كان محمد صادقاً لقد أوحيَّ إليَّ ولئن كان كاذباً لقد قلت كما قال، وجعل الشق الثاني في معنى دعوى القدرة على المثل فيصح تفسير الثاني والثالث به لا يصح إلا إذا اعتبر عنوان الصلة في الأخير من باب المماشاة مثلاً كما لا يخفى‏.‏ واعتبر الإمام عموم افتراء الكذب على الله تعالى وجعل المعطوف عليه نوعاً من الأشياء التي وصفت بكونها افتراء ثم قال‏:‏ والفرق بين هذا القول وما قبله أن في الأول‏:‏ كان يدعي أنه أوحي إليه فيما يكذب به ولم ينكر نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وفي الثاني‏:‏ أثبت الوحي لنفسه ونفاه عنه عليه الصلاة والسلام فكان جمعاً بين أمرين عظيمين من الكذب إثبات ما ليس بموجود ونفي ما هو موجود انتهى‏.‏

وفيه عدول عن الظاهر حيث جعل ضمير ‏{‏إِلَيْهِ‏}‏ راجعاً للنبي صلى الله عليه وسلم والواو في ‏{‏وَلَمْ يُوحَ‏}‏ للعطف والمتعاطفان مقول القول والمنساق للذهن جعل الضمير لمن والواو للحال وما بعدها من كلامه سبحانه وتعالى، وربما يقال لو قطع النظر عن سبب النزول‏:‏ إن المراد بمن افترى على الله كذباً من أشرك بالله تعالى أحداً يحمل افتراء الكذب على أعظم أفراده، وهو الشك وكثير من الآيات يصدح بهذا المعنى وبمن قال‏:‏ ‏{‏أُوحِىَ إِلَيْكَ‏}‏ والحال لم يوح إليه مدعي النبوة كاذباً وبمن قال‏:‏ ‏{‏سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ الله‏}‏ الطاعن في نبوة النبي عليه الصلاة والسلام فكأنه قيل‏:‏ من أظلم ممن أشرك بالله عز وجل أو ادعى النبوة كاذباً أو طعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم الكلام على مثل هذه الجملة الاستفهامية فتذكر وتدبر‏.‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى‏}‏ أي تبصر، ومفعوله محذوف لدلالة الظرف في قوله تعالى ‏{‏إِذِ الظالمون‏}‏ عليه ثم لما حذف أقيم الظرف مقامه والأصل لو ترى الظالمين إذ هم، و‏{‏إِذْ‏}‏ ظرف لترى و‏{‏الظالمون‏}‏ مبتدأ، وقوله تعالى ‏{‏فِى غَمَرَاتِ الموت‏}‏ خبره و‏(‏ إذ‏)‏ ظرف لترى، وتقييد الرؤية بهذا الوقت ليفيد أنه ليس المراد مجرد رؤيتهم بل رؤيتهم على حال فظيعة عند كل ناظر، وقيل‏:‏ المفعول ‏{‏إِذْ‏}‏ والمقصود تهويل هذا الوقت لفظاعة ما فيه، وجواب الشرط محذوف أي لرأيت أمراً فظيعاً هائلاً، والمراد بالظالمين ما يشمل الأنواع الثلاثة من الإفتراء والقولين الأخيرين، والغمرة كما قال الشهاب في الأصل‏:‏ المرة من غمر الماء ثم استعير للشدة وشاع فيها حتى صار كالحقيقة‏.‏ ومنه قول المتنبي‏:‏ وتسعدني في غمرة بعد غمرة *** سبوح لها منها عليها شواهد

والمراد هنا سكرات الموت كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏

‏{‏والملئكة‏}‏ الذين يقبضون أرواحهم وهم أعوان ملك الموت ‏{‏بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ أي بالعذاب، وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم يضربون وجوههم وأدبارهم قائلين لهم ‏{‏أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ‏}‏ أي خلصوها مما أنتم فيه من العذاب، والأمر للتوبيخ والتعجيز، وذهب بعضهم أن هذا تمثيل لفعل الملائكة في قبض أرواح الظلمة بفعل الغريم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ويقول له‏:‏ أخرج ما لي عليك الساعة ولا أريم مكاني حتى أنزعه من أحداقك، وفي «الكشف» إنه كناية عن العنف في السياق والإلحاح والتشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال ولا بسط ولا قول حقيقة هناك، واستظهر ابن المنير أنهم يفعلون معهم هذه الأمور حقيقة على الصور المحكية، وإذا أمكن البقاء على الحقيقة فلا معدل عنها2‏.‏

‏{‏اليوم‏}‏ المراد به مطلق الزمان لا المتعارف، وهو إما حين الموت أو ما يشمله وما بعده ‏{‏تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون‏}‏ أي المشتمل على الهوان والشدة والإضافة كما في رجل سوء تفيد أنه متمكن في ذلك لأن الإختصاص الذي تفيده الإضافة أقوى من اختصاص التوصيف، وجوز أن تكون الإضافة على ظاهرها لأن العذاب قد يكون للتأديب لا للهوان والخزي‏.‏ ومن الناس من فسر غمرات الموت بشدائد العذاب في النار فإنها وإن كانت أشد من سكرات الموت في الحقيقة إلا أنها استعملت فيها تقريباً للإفهام، وبسط الملائكة أيديهم بضربهم للظالمين في النار بمقامع من حديد والإخراج بالإخراج من النار وعذابها واليوم باليوم المعلوم‏.‏

‏{‏بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ‏}‏ مفترين ‏{‏عَلَى الله غَيْرَ الحق‏}‏ من نفي إنزاله على بشر شيئاً وادعاء الوحي أو من نسبة الشرك إليه ودعوى النبوة كذباً ونفيها عمن اتصف بها حقيقة أو نحو ذلك‏.‏ وفي التعبير ‏{‏بِغَيْرِ الحق‏}‏ عن الباطل ما لا يخفى وهو مفعول ‏{‏تَقُولُونَ‏}‏، وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي قولاً غير الحق ‏{‏وَكُنتُمْ عَنْ ءاياته تَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ أي تعرضون فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا‏}‏ للحساب ‏{‏فرادى‏}‏ أي منفردين عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم أو عن الأموال والأولاد وسائر ما آثرتموه من الدنيا‏.‏ أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن عكرمة قال‏:‏ النضر بن الحرث سوف تشفع لي اللات والعزى فنزلت، والجملة على ما ذهب إليه بعض المحققين مستأنفة من كلامه تعالى ولا ينافي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُكَلّمُهُمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 174‏]‏ لأن المراد نفي تكليمهم بما ينفعهم أو لأنه كناية عن الغضب، وقيل‏:‏ معطوفة على قول ‏{‏الملائكة أَخْرِجُواْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 93‏]‏ الخ وهي من جملة كلامهم وفيه بعد وإن ظنه الإمام أولى وأقوى‏.‏ ونصب ‏{‏فرادى‏}‏ على الحال من ضمير الفاعل وهو جمع فرد على خلاف القياس كأنه جمع فردان كسكران على ما في «الصحاح»، والألف للتأنيث ككسالى، والراء في فرده مفتوحة عند صاحب «الدر المصون» وحكى بصيغة التمريض سكونها، ونقل عن الراغب «أنه جمع فريد كأسير وأسارى»، وفي «القاموس» «يقال‏:‏ جاءوا فُرَاداً وفِرَاداً وفُرَادَى وفُرَادَ وفَرَادَ وفَرْدَى كسَكْرَى أي واحداً بعد واحد والوَاحِدُ فَرْدٌ وفَرِدٌ وفَرِيد وفَرْدَان ولا يجوز فَرْدٌ في هذا المعنى»، ولعل هذا بعيد الإرادة في الآية‏.‏ وقرىء ‏{‏فراداً‏}‏ كرخال المضموم الراء وفراد كآحاد ورباع في كونه صفة معدولة، ولا يرد أن مجيء هذا الوزن المعدول مخصوص بالعدد بل ببعض كلماته لما نص عليه الفراء وغيره من عدم الاختصاص، نعم هو شائع فيما ذكر‏.‏ وفردى كسكرى تأنيث فردان والتأنيث لجمع ذي الحال‏.‏

‏{‏جِئْتُمُونَا كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ بدل من ‏{‏فرادى‏}‏ بدل كل لأن المراد المشابهة في الانفراد المذكور، والكاف اسم بمعنى مثل أي مثل الهيئة، التي ولدتم عليها في الانفراد ويجوز أن يكون حالاً ثانية على رأي من يجوز تعدّد الحال من غير عطف وهو الصحيح أو حالاً من الضمير في ‏{‏فرادى‏}‏ فهي حال مترادفة أو متداخلة والتشبيه أيضاً في الانفراد، ويحتمل أن يكون باعتبار ابتداء الخلقة أي مشبهين ابتداء خلقكم بمعنى شبيهة حالكم حال ابتداء خلقكم حفاة عراة غرلاً بهما، وجوز أن يكون صفة مصدر ‏{‏جِئْتُمُونَا‏}‏ أي مجيئاً كخلقنا لكم‏.‏

أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قرأت هذه الآية فقالت‏:‏ ‏"‏ يا رسول الله واسوأتاه إن النساء والرجال سيحشرون جميعاً ينظر بعضهم إلى سوأة بعض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 37‏]‏ لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض ‏"‏‏.‏

‏{‏وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم‏}‏ أي ما أعطيناكم في الدنيا من المال والخدم وهو متضمن للتوبيخ أي فشغلتم به عن الآخرة ‏{‏وَرَاء ظُهُورِكُمْ‏}‏ ما قدمتم منه شيئاً لأنفكسم‏.‏

أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الحسن قال‏:‏ يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بذخ فيقول له تبارك وتعالى‏:‏ أين ما جمعت‏؟‏ فيقول‏:‏ يا رب جمعته وتركته أوفر ما كان فيقول‏:‏ أين ما قدمت لنفسك‏؟‏ فلا يراه قدم شيئاً وتلا هذه الآية، والجملة قيل مستأنفة أو حال بتقدير قد‏.‏

‏{‏وَمَا نرى‏}‏ أي نبصر وهو على ما نص عليه أبو البقاء حكاية حال وبه يتعلق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّعَكُمْ‏}‏ وليس حالاً من مفعول ‏{‏نُرِى‏}‏ أعني قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏شُفَعَاءكُمُ‏}‏ ولا مفعولاً ثانياً، والرؤية علمية‏.‏ وإضافة الشفعاء إلى ضمير المخاطبين باعتبار الزعم كما يفصح عنه وصفهم بقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الذين زَعَمْتُمْ‏}‏ في الدنيا ‏{‏أَنَّهُمْ فِيكُمْ‏}‏ أي شركاء لله تعالى في ربوبيتكم واستحقاق عبادتكم، والزعم هنا نص في الباطل وجاء استعماله في الحق كما تقدمت الإشارة إليه، ومن ذلك قوله‏:‏

تقول هلكنا إن هلكت وإنما *** على الله أرزاق العباد كما زعم

‏{‏شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ‏}‏ بنصب بين وهي قراءة عاصم والكسائي وحفص عن عاصم، واختلف في تخريج ذلك فقيل‏:‏ الكلام على إضمار الفاعل لدلالة ما قبل عليه أي تقطع الأمر أو الوصل بينكم، وقيل‏:‏ إن الفاعل ضمير المصدر، وتعقبه أبو حيان بأنه غير صحيح لأن شرط إفادة الإسناد مفقودة فيه وهو تغاير الحكم والمحكوم عليه ولذلك لا يجوز قام ولا جلس وأنت تريد قام هو أي القيام وجلس هو أي الجلوس‏.‏ ورد بأنه سمع بدا بداء، وقد قدروا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 35‏]‏ بدا البداء‏.‏ وقال السفاقسي‏:‏ إن من جعل الفاعل ضمير المصدر قال‏:‏ المراد وقع التقطع والتغاير حاصل بهذا الاعتبار ولو سلم فالتقطع المعتبر مرجعاً معرف بلام الجنس و‏{‏تُقَطَّعَ‏}‏ منكر فكيف يقال اتحد الحكم والمحكوم عليه‏.‏ ولا يخفى أن القول بالتأويل متعين على هذا التقدير لأنه إذا تقطع التقطع حصل الوصل وهو ضد المقصود وقيل‏:‏ إن بين هو الفاعل وبقي على حاله منصوباً حملاً له على أغلب أحواله وهو مذهب الأخفش، وقيل‏:‏ إنه بني لإضافته إلى مبنى، وقيل غير ذلك‏.‏ واختار أبو حيان «أن الكلام من باب ‏(‏التنازع سلط‏)‏ على ما كنتم تزعمون تقطع وضل ‏(‏عنكم‏)‏ فأعمل الثاني وهو ‏{‏ضَلَّ‏}‏ وأضمر في ‏{‏تُقَطَّعَ‏}‏ ‏(‏ضميره‏)‏‏.‏ والمراد بذلك الأصنام، والمعنى لقد تقطع بينكم ما كنتم تزعمون وضلوا عنكم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاسباب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 166‏]‏ أي لم يبق اتصال بينكم وبين ما كنتم تزعمون أنهم شركاء فعبدتموهم2‏.‏

وقرأ باقي السبعة ‏{‏بَيْنِكُمْ‏}‏ بالرفع على الفاعلية وهو من الأضداد كالقرء يستعمل في الوصل والفصل، والمراد به هنا الوصل أي تقطع وصلكم وتفرق جمعكم، وطعن ابن عطية في هذا بأنه لم يسمع من العرب أن البين بمعنى الوصل وإنما انتزع من هذه الآية‏.‏

وأجيب بأنه معنى مجازي ولا يتوقف على السماع لأن بين يستعمل بين الشيئين المتلابسين نحو بيني وبينك رحم وصداقة وشركة فصار لذلك بمعنى الوصلة‏.‏ على أنه لو قيل بأنه حقيقة في ذلك لم يبعد، فإن أبا عمر‏.‏ وأبا عبيدة وابن جني والزجاج وغيرهم من أئمة اللغة نقلوه وكفى بهم سنداً فيه، فكونه منتزعاً من هذه الآية غير مسلم، وعليه فيكون مصدراً لا ظرفاً‏.‏ وقيل‏:‏ إن بين هنا ظرف لكنه أسند إليه الفعل على سبيل الاتساع‏.‏ وقرأ عبد الله ‏{‏لَقَد تَّقَطَّعَ مَا بَيْنِكُمْ‏}‏ وما فيه موصوفة أو موصولة ‏{‏وَضَلَّ عَنكُم‏}‏ ضاع وبطل ‏{‏مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ أنها شفعاؤكم أو أنها شركاء لله تعالى فيكم أو أن لا بعث ولا جزاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى‏}‏ شروع في تقرير بعض أفاعيله تعالى العجيبة الدالة على كمال علمه تعالى وقدرته ولطيف صنعه وحكمته إثر تقرير أدلة التوحيد، وفي ذلك «تنبيه على أن المقصود ‏(‏الأصلي‏)‏ من جميع المباحث العقلية والنقلية وكل المطالب الحكمية إنما هو معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأفعاله سبحانه»‏.‏ والفالق الموجد والمبدع كما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والضحاك والحب معلوم‏.‏ والنوى جمع نواة التمر كما في «القاموس» وغيره يؤنث ويذكر ويجمع على أنواء ونوى بضم النون وكسرها‏.‏ وفسره الإمام بالشيء الموجود في داخل الثمرة بالمثلثة أعم من التمر بالمثناة وغيره، والمشهور أن النوى إذا أطلق فالمراد منه ما في «القاموس» وإذا أريد غيره قيد فيقال‏:‏ نوى الخوخ ونوى الإجاص ونحو ذلك‏.‏ وأصل الفلق الشق‏.‏ وكان إطلاق الفالق على الموجد باعتبار أن العقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ولا انفلاق فمتى أوجد الشيء تخيل الذهن أنه شق ذلك العدم وفلقه وأخرج ذلك المبدع منه، وعن الحسن وقتادة والسدي أن المعنى شاق الحبة اليابسة ومخرج النبات منها وشاق النواة ومخرج النخل والشجر منها وعليه أكثر المفسرين ولعله الأولى‏.‏ وفي ذلك دلالة على كمال القدرة لما فيه من العجائب التي تصدح أطيارها على أفنان الحكم وتطفح أنهارها في رياض الكرم‏.‏ وعن مجاهد وأبي مالك أن المراد بالفلق الشق الذي بالحبوب وبالنوى أي أنه سبحانه خالقهما كذلك كما في قولك‏:‏ ضيق فم الركية ووسع أسفلها‏.‏ وضعف بأنه لا دلالة له على كمال القدرة كما في سابقه‏.‏

‏{‏يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت‏}‏ أي يخرج ما ينمو من الحيوان والنبات والشجر مما لا ينمو من النطفة‏.‏ والحب والنوى، والجملة مستأنفة مبينة لما قبلها على ما عليه الأكثر ولذلك ترك العطف وقيل‏:‏ خبر ثان ولم يعطف للإيذان باستقلاله في الدلالة على عظمة الله تعالى ‏{‏وَمُخْرِجُ الميت‏}‏ كالنطفة وأخويها ‏{‏مِنَ الحى‏}‏ كالحيوان وأخويه، وهذا عند بعض عطف على ‏{‏فَالِقُ‏}‏ لا على ‏{‏يُخْرِجُ الحى‏}‏ الخ لأنه كما علمت بيان لما قبله وهذا لا يصلح للبيان وإن صح عطف الاسم المشتق على الفعل وعكسه‏.‏ واختار ابن المنير كونه معطوفاً على ‏{‏يَخْرُجُ‏}‏ قال‏:‏ «وقد وردا جميعاً بصيغة المضارع كثيراً وهو دليل على أنهما توأمان مقترنان وهو يبعد القطع، فالوجه والله تعالى أعلم أن يقال‏:‏ كان الأصل أن يؤتى بصيغة اسم الفاعل أسوة أمثاله في الآية إلا أنه عدل عن ذلك إلى المضارع في هذا الوصف وحده إرادة لتصوير إخراج الحي من الميت واستحضاره في ذهن السامع وذلك إنما يتأتى بالمضارع دون اسم الفاعل والماضي ألم تر

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَتُصْبِحُ الارض مُخْضَرَّةً‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 63‏]‏ كيف عدل فيه عن الماضي المطابق لأنزل لذلك، وقوله‏:‏ بأني قد لقيت الغول يسعى *** بسهب كالصحيفة صحصحان فآخذه وأضربه فخرت

صريعاً لليدين وللجران *** فإنه عدل فيه إلى المضارع إرادة لتصوير شجاعته واستحضارها لذهن السامع إلى ما لا يحصى كثرة، وهو إنما يجيء فيما تكون العناية فيه أقوى، ولا شك أن إخراج الحي من الميت أشهر في القدرة من عكسه وهو أيضاً أول الحالين والنظر أول ما يبدأ فيه ثم القسم الآخر ناشىء عنه فكان الأول جديراً بالتصوير والتأكيد في النفس ولذلك هو مقدم أبداً على القسم الآخر في الذكر حسب ترتبهما في الواقع، وسهل عطف الاسم على الفعل وحسنه أن اسم الفاعل في معنى المضارع وكل منهما يقدر بالآخر فلا جناح في عطفه عليه2‏.‏

وقال الإمام في وجه ذلك الاختلاف‏:‏ «إن لفظ الفعل يدل على أن الفاعل معتن بالفعل في كل حين وأوان، وأما لفظ الاسم فإنه لا يفيد التجدد والاعتناء به ساعة فساعة، ويرشد إلى هذا ما ذكره الشيخ عبد القاهر في «دلائل الإعجاز» من أن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏هَلْ مِنْ خالق غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مّنَ السماء‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 3‏]‏ قد ذكر فيه الرزق بلفظ الفعل لأنه يفيد أنه تعالى يرزقهم حالاً فحالاً وساعة فساعة، وقوله عز شأنه ‏{‏وَكَلْبُهُمْ باسط ذِرَاعَيْهِ بالوصيد‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 18‏]‏ قد ذكر فيه الاسم ليفيد البقاء على تلك الحالة، وإذا ثبت ذلك يقال‏:‏ لما كان الحي أشرف من الميت وجب أن يكون الإعتناء بإخراج الحي من الميت أكثر من الاعتناء بإخراج الميت من الحي، فلذا وقع التعبير عن القسم الأول بصيغة الفعل وعن الثاني بصيغة الاسم تنبيهاً على أن الإعتناء بإيجاد الحي من الميت أكثر وأكمل من الإعتناء بإيجاد الميت من الحي2‏.‏

ثم العطف لاشتمال الكلام به على زيادة لا يضر بكون الجملة بياناً لما تقدم كما لا يضر شمول الحي والميت في الجملة المعطوف عليها للحيوان والنبات فيه‏.‏ وأياً ما كان فلا بد من القول بعموم المجاز أو الجمع بين المجاز والحقيقة على مذهب من يرى صحته إن قلنا‏:‏ إن الحي حقيقة فيمن يكون موصوفاً بالحياة وهي صفة توجب صحة الإدراك والقدرة والميت حقيقة فيمن فارقته تلك الصفة أو نحو ذلك‏.‏ وأن إطلاقه على نحو النبات والشجر الغض والحب والنوى مجاز‏.‏ وبهذا يشعر كلام الإمام فإنه جعل ما نقل عن الزجاج أن المعنى يخرج النبات الغض الطري من الحب اليابس ويخرج الحب اليابس من النبات الحي النامي من الوجوه المجازية كالمروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المعنى يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن‏.‏

‏{‏ذلكم‏}‏ القادر العظيم الشأن الساطع البرهان هو ‏{‏الله‏}‏ الذات الواجب الوجود المستحق للعبادة وحده ‏{‏فأنى تُؤْفَكُونَ‏}‏ فكيف تصرفون عن عبادته وتشركون به من لا يقدر على شيء لا سبيل إلى ذلك أصلاً‏.‏ «وتمسك الصاحب بن عباد بهذا على أن فعل العبد ليس مخلوقاً لله تعالى لأنه سبحانه لو خلق فيه الإفك لم يلق به عز شأنه أن يقول‏:‏ ‏{‏فأنى تُؤْفَكُونَ‏}‏ «وقد قدمنا الجواب على ذلك على أتم وجه فتذكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏فَالِقُ الإصباح‏}‏ خبر لمبتدأ محذوف أي هو فالق أو خبر آخر لإن‏.‏ والإصباح بكسر الهمزة مصدر سمي به الصبح؛ قال امرؤ القيس‏:‏ ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي *** يصبح وما الإصباح منك بأمثل

وقرأ الحسن بالفتح على أنه جمع صبح كقفل وأقفال‏.‏ وأنشد قوله‏:‏ أفنى رياحاً وبنى رياح *** تناسخ الإمساء والإصباح

بالكسر والفتح مصدرين وجمعي مسي وصبح‏.‏ والفالق الخالق على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة والضحاك وقال غير واحد‏:‏ الشاق‏.‏ واستشكل بأن الظاهر أن الظلمة هي التي تفلق عن الصبح‏.‏ وأجيب بأن الصبح صبحان، صادق وهو المنتشر ضوؤه معترضاً بالأفق، وكاذب وهو ما يبدو مستطيلاً وأعلاه أضوأ من باقيه وتعقبه ظلمة‏.‏ وعلى الأول‏:‏ يراد فلقه عن بياض النهار أو يقال‏:‏ في الكلام مضاف مقدر أي فالق ظلمة الإصباح بالأصباح وذلك لأن الأفق من الجانب الغربي والجنوبي مملوء من الظلمة والنور إنما ظهر في الجانب الشرقي فكأن الأفق كان بحراً مملوءاً من الظلمة فشق سبحانه ذلك البحر المظلم بأن أجرى جدولاً من النور فيه‏.‏ وعلى الثاني‏:‏ فإيراد أنه سبحانه فالقه عن ظلمة آخر الليل وشاقه منه‏.‏ وما ذكر من تقسيم الصبح إلى صادق وكاذب مما يشهد له العيان ولا يمتري فيه إثنان إلا أن في سبب ذلك كلاماً لأهل الهيئة حاصله أن الصبح وكذا الشفق استنارة في كرة البخار لتقارب الشمس من أفق المشرق وتباعدها عن أفق المغرب‏.‏

وقد تحقق أن كرة البخار عبارة عن هواء متكاثف بما فيه من الأجزاء الأرضية والمائية المتصاعدة من كرتيهما بتسخين الشمس وغيرها إياها وأن شكل ذلك الهواء شكل كرة محيطة بالأرض على مركزها وسطح مواز لسطحها المتساوي غاية ارتفاعها عن مركز الأرض في جميع النواحي المستلزم لكرويتها وأنها مختلفة القوام لأن ما كان منها أقرب إلى الأرض فهو أكثف مما بعد لأن الألطف يتصاعد ويتباعد أكثر من الأكثف ولكن لا يبلغ في التكاثف إلى حيث يحجب ما وراءه‏.‏ وأن هذه الكرة تنتهي إلى حد لا تتجاوزه وهو من سطح الأرض أحد وخمسون ميلاً تقريباً وأن للأرض ظلاً على هيئة مخروط قاعدته دائرة عليها تكاد تكون عظيمة وهي مواجهة للشمس ورأسه في مقابلها‏.‏ وتنقسم الأرض بهذه القاعدة إلى قسمين‏:‏ أحدهما أكبر مستضيء مواجه للشمس والآخر مظلم مقابل لها، ويتحرك الضياء والظلمة على سطح الأرض في يوم بليلته دورة واحدة كعلمين متقابلين أحدهما أبيض والآخر أسود‏.‏ وأن شعاع الشمس محيط بمخروط الظل من جميع جوانبه ومنبث في جميع الأفلاك سوى مقدار يسير من فلك القمر وفلك عطارد وقع في مخروط ظل الأرض لكن الأفلاك لكونها مشعة في الغاية ينفذ فيها الشعاع ولاينعكس عنها فلذلك لا نراها مضيئة‏.‏

وكذا الهواء الصافي المحيط بكرة البخار لا يقبل ضوءاً‏.‏

وأما كرة البخار فهي مختلفة القوام لأن ما قرب منها إلى الأرض أكثف مما بعد والأكثف أقبل للاستضاءة فالكثيف الخشن باختلاط الهيئات الكثيرة من سطح مخروط الظل قابل للضوء وأن النهار مدة كون ذلك المخروط تحت الأفق والليل مدة كونه فوقه‏.‏ وحيث تحقق كل ذلك يقال‏:‏ إذا ازداد قرب الشمس من شرقي الأفق ازداد ميل المخروط إلى غربيه ولا يزال كذلك حتى يرى الشعاع المحيط به وأول ما يرى هو الأقرب إلى موضع الناظر وهو خط يخرج من بصره في سطح دائرة سمتية تمر بمركز الشمس عموداً على الخط المماس للشمس والأرض وهو الذي في سطح الفصل المشترك بين الشعاع والظل فيرى الضوء أولاً مرتفعاً عن الأفق عند موقع العمود مستطيلاً كخط مستقيم وما بينه وبين الأفق يرى مظلماً لبعده وإن كان مستنيراً في الواقع ولكثافة الهواء عند الأفق مدخل في ذلك أيضاً وهو الصبح الكاذب، ثم إذا قربت من الأفق الشرقي رؤى الضوء معترضاً منبسطاً يزداد لحظة فلحظة وينمحي الأول بهذا الضياء القوى كما ينمحي ضياء المشاعل والكواكب في ضوء الشمس فيخيل أن الأول قد عدم وهو الصبح الصادق‏.‏

وتوضيح ما ذكر على ما في «التذكرة» و«شرح سيد المحققين» أنه يتوهم لبيان ذلك سطح يمر بمركز الشمس والأرض وبسهم المخروط ومركز قاعدته فيحدث مثلث حاد الزوايا قاعدته على الأفق وضلعاه على سطح المخروط‏.‏ أما حدوث المثلث فلما تقرر أنه إذا مر سطح مستو بسهم المخروط ومركز قاعدته أحدث فيه مثلثاً‏.‏ وأما حدة الزوايا فلأن رأس المخروط في نصف الليل يكون على دائرة نصف النهار فوق الأرض‏.‏ وحينئذ إما أن يكون المخروط قائماً على سطح الأفق‏.‏ وذلك إذا كانت الشمس على سمت القدم أو مائلاً إلى الشمال أو الجنوب مع تساوي بعده عن جهة المشرق والمغرب‏.‏ وذلك إذا لم تكن الشمس على سمت القدم‏.‏

وأياً ما كان فذلك السطح المفروض ممتد فيما بين الخافقين أما على التقدير الأول فظاهر‏.‏ وأما على التقدير الثاني فلتساوي بعد رأس المخروط عن جانبي المشرق والمغرب فيكون زوايتا قاعدة المثلث حادتين لوجوب تساويهما وامتناع وقوع قائمتين أو منفرجتين في مثلث‏.‏ وإذا مال رأس المخروط عن نصف النهار المغرب فوق الأرض بسبب انتقال الشمس عنه إلى جانب المشرق تحت الأرض تضايقت الزاوية الشرقية من ذلك المثلث فتصير أحد مما كانت واتسعت الزاوية الغربية حتى تصير منفرجة لكن المقصود لا يختلف‏.‏ ولا شك أن الأقرب من الضلع الذي يلي الشمس إلى الناظر يكون موقع العمود الخارج من النظر الواقع على ذلك الضلع لا موضع اتصال الضلع بالأفق‏.‏

وذلك أنه إذا خرج من البصر إلى الضلع الشرقي عمود فلا يمكن أن يقع على موضع اتصال هذا الضلع بالأفق وإلا انطبقت القائمة على بعض الحادة ولا أن يقع تحت الأفق بأن يقطع العمود قاعدة المثلث ويصل إلى الضلع المذكور بعد إخراجه تحته وإلا لزم في المثلث الحادث تحت الأفق من القدر المخرج من بعض القاعدة وبعض العمود قائمة ومنفرجة ولا أن يقع في جهة رأس المثلث على موضع اتصال أحد ضلعيه بالآخر ولا خارجاً عنه في تلك الجهة لما ذكرنا بعينه فوجب أن يقع داخل المثلث فيما بين طرفي الضلع الشرقي وقد تبين أن موضعه أقرب إلى الناظر من موضع اتصاله بالأفق‏.‏ ولا شك في أن ما وقع من هذا الضلع فيما كثف من كرة البخار يكون مستنيراً بتمامه حال قرب الشمس من أفق المشرق إلا أن ما كان أقرب منه إلى الناظر يكون أصدق رؤية‏.‏ وهو موقع العمود ومن هنا يتحقق الصادق والكاذب‏.‏ انتهى كلامهم‏.‏

والإمام الرازي أنكر كون الصبح الكاذب من أثر قرص الشمس وإنما هو بتخليق الله تعالى ابتداء قال‏.‏ لأن مركز الشمس إذا وصل إلى دائرة نصف الليل فالموضع الذي يكون فلك الدائرة أفقاً لهم قد طلعت الشمس من مشرقهم‏.‏ وفي ذلك الموضع أضاء نصف كرة الأرض‏.‏ وذلك يقتضي أنه حصل الضوء في الربع الشرقي من بلدنا وذلك الضوء يكون منتشراً مستطيراً في جمع أجزاء الجو ويجب أن يزداد لحظة فلحظة‏.‏ وحينئذ يمتنع أن يكون الصبح الأول خطاً مستطيلاً فحيث كان كذلك علم أنه ليس من تأثير قرص الشمس ولا من جنس نوره‏.‏ ويفهم من كلامه أيضاً أن الصبح الثاني كالصبح الأول ليس إلا بتخليق الفاعل المختار ويمتنع أن يكون من تأثير قرص الشمس، وبين ذلك بأن من المقدمات المتفق عليها أن المضيء، شمساً كان أو غيره لا يقع ضوؤه إلا على الجرم المقابل له دون غير المقابل والشمس عند طلوع الصبح غير مرتفعة من الأفق فلا يكون جرم الشمس مقابلاً لجزء من أجزاء وجه الأرض فيمتنع وقوع ضوء الشمس على وجه الأرض وإذا امتنع ذلك امتنع أن يكون ضوء الصبح من تأثير القرص، ثم قال فإن قالوا‏:‏ لم لا يجوز أن يقال الشمس حين كونها تحت الأرض توجب إضاءة ذلك الهواء المقابل لها وذلك الهواء مقابل للهواء الواقف فوق الأرض فيصير ضوء الهواء الواقف تحت الأرض سبباً لضوء الهواء الواقف فوق الأرض ثم لا يزال يسري ذلك الضوء من هواء آخر ملاصق له حتى يصل إلى الهواء المحيط بنا‏.‏

وعلى هذا عول أبو علي بن الهيثم في «المناظر» فالجواب‏:‏ أن هذا باطل من وجهين، الأول‏:‏ أن الهواء شفاف عديم اللون فلا يقبل النور واللون في ذاته‏.‏

وما كان كذلك يمتنع أن ينعكس منه النور إلى غيره فيمتنع أن يصير ضوؤه سبباً لضوء هواء آخر مقابل له‏.‏ فإن قالوا فلم لا يجوز أن يقال إنه حصل في الأفق أجزاء كثيفة من الأبخرة والأدخنة وهي لكثافتها تقبل النور عن قرص الشمس ثم يفيض على الهواء المقابل له‏؟‏ فنقول‏:‏ لو كان كذلك لكان كلما كانت الأبخرة والأدخنة في الأفق أكثر وجب أن يكون ضوء الصباح أقوى وليس الأمر كذلك بل بالعكس، الثاني‏:‏ أن الدائرة التي هي دائرة الأفق لنا بعينها دائرة نصف النهار لقوم آخرين‏.‏ وإذا كان كذلك فالدائرة التي هي نصف النهار في بلدنا وجب كونها دائرة الأفق لأولئك الأقوام، وإذا ثبت هذا فنقول‏.‏ إذا وصل مركز الشمس إلى دئرة نصف الليل وتجاوز عنها فالشمس قد طلعت على أولئك الأقوام واستنار نصف العالم هناك‏.‏ والربع من الفلك الذي هو ربع شرقي لأهل بلدنا فهو بعينه ربع غربي بالنسبة إلى تلك البلدة، وإذا كان كذلك فالشمس إذا تجاوز مركزها عن دائرة نصف الليل قد صار جرمها محازياً لهواء الربع الذي هو الربع الشرقي لأهل بلدنا فلو كان الهواء يقبل كيفية النور من الشمس لوجب أن يحصل النور في هذا الربع الشرقي من بلدنا بعد نصف الليل وأن يصير هواء هذا الربع في غاية الإنارة حينئذ وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الهواء لا يقبل كيفية النور في ذاته وإذا بطل هذا بطل العذر الذي ذكره ابن الهيثم انتهى المراد منه‏.‏ ولا أراه أتى بشيء يتبلج به صبح هذا المطلب كما لا يخفى على من أحاط خبراً بما قدمناه‏.‏

وذكر أفضل المتأخرين العلامة أحمد بن حجر الهيثمي أن لأهل الهيئة في تحقيق الصبح الكاذب كلاماً طويلاً مبنياً على الحدس المبني على قاعدة الحكماء الباطلة كمنع الخرق والالتئام على أنه لا يفي ببيان سبب كون أعلاه أضوأ مع أنه أبعد من أسفله عن مستمده وهو الشمس ولا ببيان سبب انعدامه بالكلية حتى تعقبه ظلمة كما صرح به الأئمة وقدروها بساعة‏.‏ والظاهر أن مرادهم مطلق الزمن لأنها تطول تارة وتقصر أخرى وهذا شأن الساعات الزمانية المسماة بالمعوجة ويقابلونها بالساعات المستوية المقدر كل منها دائماً بخمس عشرة درجة، وزعم بعض أهل الهيئة عدم انعدامه وإنما يتناقص حتى ينغمر في الصادق وقد تقدم لك ذلك فيما نقلناه لك عنهم ولعله بحسب التقدير لا الحس، وفي خبر مسلم «لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا العارض لعمود الصبح حتى يستطير أي ينتشر ذلك العمود في نواحي الأفق» ويؤخذ من تسميته عارضاً للثاني شيئان، أحدهما‏:‏ أنه يعرض للشعاع الناشيء عنه الصبح، الثاني‏:‏ انحباس قرب ظهوره كما يشعر به التنفس في قوله سبحانه‏:‏

‏{‏والصبح إِذَا تَنَفَّسَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 18‏]‏ فعند ذلك الانحباس يتنفس منه شيء من شبه كوة، والمشاهد في المنحبس إذا خرج بعضه دفعة أن يكون أوله أكثر من آخره، وهذا لكون كلام الصادق قد يدل عليه ولانبائه عن سبب طوله وإضاءة أعلاه واختلاف زمنه وانعدامه بالكلية الموافق للحس أولى مما ذكره أهل الهيئة القاصر عن كل ذلك‏.‏ ثانيهما‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم أشار بالعارض إلى أن المقصود بالذات هو الصادق وأن الكاذب إنما قصد بطريق العرضية لينبه الناس به لقرب ذلك فينتبهوا ليدركوا فضيلة أول الوقت لاشتغالهم بالنوم الذي لولا هذه العلامة لمنعهم إدراك أول الوقت، فالحاصل أنه نور يبرزه الله تعالى من ذلك الشعاع أو يخلقه حينئذ علامة على قرب الصبح ومخالفاً له في الشكل ليحصل التمييز وتتضح العلامة العارضة من المعلم عليه المقصود فتأمل ذلك فإنه غريب مهم‏.‏

وفي حديث عند أحمد «ليس الفجر الأبيض المستطيل في الأفق ولكن الفجر الأحمر المعترض» وفيه شاهد لما ذكر آخر‏.‏ ومما يؤيد ما أشير إليه من الكوة ما أخرجه غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن للشمس ثلثمائة كوة تطلع كل يوم من كوة فلا بدع أنها عند قربها من تلك الكوة ينحبس شعاعها ثم يتنفس كما مر‏.‏ وللقرافي المالكي‏.‏ وغيره كالأصبحي من الشافعية فيه كلام يوضحه ويبين صحة ما ذكر من الكوات ويوافق الاستشكال لكونه يظهر ثم يغيب‏.‏ وحاصله وإن كان فيه طول لمس الحاجة إليه أنه بياض يطلع قبل الفجر ثم يذهب عند أكثر الأبصار دون الراصد المجد القوي النظر‏.‏

وذكر ابن بشير المالكي أنه من نور الشمس إذا قربت من الأفق فإذا ظهرت أنست به الأبصار فيظهر له أنه غاب وليس كذلك‏.‏ ونقل الأصبحي أن بعضهم ذكر أنه يذهب بعد طلوعه ويعود مكانه ليلاً وهو كثير من الشافعية، وإن أبا جعفر البصري بعد أن عرفه بأنه عند بقاء نحو ساعتين يطلع مستطيلاً إلى نحو ربع السماء كأنه عمود وربما لم ير إذا كان الجو نقياً شتاء وأبين ما يكون إذا كان الجو كدراً صيفاً أعلاه دقيق وأسفله واسع ولا ينافي هذا ما تقدم من أن أعلاه أضوأ لأن ذلك عند أول الطلوع وهذا عند مزيد قربه من الصادق وتحته سواد ثم بياض ثم يظهر بياض يغشى ذلك كله ثم يعترض رده بأنه رصده نحو خمسين سنة فلم يره غاب وإنما ينحدر ليلتقي مع المعترض في السواد ويصيران فجراً واحداً‏.‏ وزعم غيبته ثم عوده وهم أو رآه يختلف باختلاف الفصول فظنه يذهب، وبعض المؤقتين يقول‏:‏ هو المجرة إذا كان الفجر بالسعود، ويلزمه أن لا يوجد إلا نحو شهرين في السنة قال القرافي‏:‏ وقال آخرون هو شعاع يخرج من طباق بجبل قاف ثم أبطله بأن جبل قاف لا وجود له وبرهن عليه بما يرده ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من طرق خرجها الحفاظ وجماعة منهم ممن التزموا تخريج الصحيح، وقول الصحابي ذلك ونحوه مما لا مجال للرأي فيه حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، منها

‏"‏ أن وراء أرضنا بحراً محيطاً ثم جبلاً يقال له قاف ثم أرضاً ثم بحراً ثم جبلاً ‏"‏ وهكذا حتى عد سبعاً من كل، وأخرج بعض أولئك عن عبد الله بن بريدة أنه جبل من ذمرد محيط بالدنيا عليه كنفا السماء، وعن مجاهد مثله، وكما اندفع بذلك قوله‏:‏ لا وجود له اندفع قوله إثره‏:‏ ولا يجوز اعتقاد ما لا دليل عليه لأنه إن أراد بالدليل مطلق الأمارة فهذا عليه أدلة أو الأمارة العقلية فهذا مما يكفي فيه الظن كما هو جلي، ثم نقل عن القرافي عن أهل الهيئة أنه يظهر ثم يخفى دائماً، ثم استشكله وأطال في جوابه بما لا يتضح إلا لمن أتقن علمي الهندسة والمناظر فأولى منه أن يختلف باختلاف النظر لاختلافه باختلاف الفصول والكيفيات العارضة لمحله فقد يدق في بعض ذلك حتى لا يرى أصلاً وحينئذ فهذا عذر من عبر بأنه يغيب ثم تعقبه ظلمة، هذا ولا يخفى أن القول بحدوث ضوء الصبح بمجرد خلق الله تعالى لا عن سبب عادي كما يشير إليه كلام الإمام أهون من القول بأنه من شعاع يخرج من طباق جبل قاف‏.‏ والقول بخروج الشعاع من هذا الطباق أهون من القول بخروج الشمس التي هي على ما بين في الأجرام مائة وستة وستون مثلاً للأرض مع كسر تقدم على ما هو المشهور أو ثلاثمائة وستة وعشرون مثلاً لها على ما قاله غياث الدين جمشيد الكاشي في رسالته سلم السماء أو ما يقرب من ذلك على ما في بعض الروايات من كوة من جبل محيط بالأرض‏.‏

والخبر في ذلك إن صح وقلنا‏:‏ إن له حكم المرفوع مما ينبغي تأويله وباب التأويل أوسع من تلك الكوة فإن كثيراً من الناس قد قطعوا دائرة الأرض على مدار السرطان مراراً ولم يجدوا أثراً لهذا الجبل المحيط الشامخ‏.‏ وإثبات سبعة جبال وسبعة أبحر على الوجه السابق مما لا يخفى ما فيه أيضاً‏.‏ وكون الله تعالى لا يعجزه شيء مما لا يشك فيه إلا ملحد لكن الكلام في وقوع ما ذكر في الخارج‏.‏ والذي تميل إليه قلوب كثير من الناس في أمر الصبح ما ذكره أهل الهيئة‏.‏

وقد بين أرسطرخس في الشكل الثاني من «كتابه في جرم النيرين» أن الكرة إذا اقتبست الضوء من كرة أعظم منها كان المضيء منها أعظم من نصفها‏.‏

وقد بين أيضاً في الشكل الأول من ذلك الكتاب أن كل كرتين مختلفتين أمكن أن يحيط بهما مخروط مستدير رأسه يلي أصغرهما ويكون المخروط مماساً لكل منهما على محيط دائرة، ولا شك أنه محيط بالشمس والأرض مخروط مؤلف من خطوط شعاعية رأسه يلي الأرض فيكون هذا المخروط مماساً للأرض على دائرة فاصلة بين المضيء والمظلم منها وهي دائرة صغيرة لأن الجزء المضيء من الأرض أصغر‏.‏

وقد حققوا أن المستنير من الهواء كرة البخار سوى ما دخل في ظل مخروط الأرض وهي مستنيرة أبداً لكثافتها وإحاطة أشعة الشمس بها لكنها لا ترى في الليل لبعدها عن البصر وإن سهم المخروط أبداً في مقابلة جرم الشمس كما أشرنا إليه‏.‏ ففي منتصف الليل يكون على دائرة نصف النهار وبعد ذلك يميل إلى جانب الغروب لحظة فلحظة إلى أن يرى البياض في جانب المشرق على ما تقدم تفصيله وعلى هذا لا يلزم في الصورة التي ذكرها الإمام من مجاوزة مركز الشمس دائرة نصف الليل وطلوعها على أولئك الأقوام‏.‏ واستنارة نصف العالم عندهم استنارة الربع الشرقي عندنا لاختلاف الوضع كما لا يخفى على المتأمل، والتزام القول بالكروية والمخروط ونحو ذلك مما ذكره أهل الهيئة لا بأس به، نعم اعتقاد صحة ما يقولونه مما علم خلافه من الدين بالضرورة أو علم بدليل قطعي كفر أو ضلال فتدبر‏.‏ وقرىء ‏{‏فَالِقُ‏}‏ بالنصب على المدح‏.‏ وقرأ النخعي ‏{‏فَالِقُ الإصباح‏}‏‏.‏

‏{‏وَجَعَلَ اليل سَكَناً‏}‏ أي يسكن إليه من يتعب بالنهار ويستأنس به لاسترواحه فيه وكل ما يسكن إليه الرجل ويطمئن استئناساً به واسترواحاً إليه من زوج أو حبيب يقال له‏:‏ سكن، ومنه قيل للنار‏:‏ سكن لأنه يستأنس بها ولذا سموها مؤنسة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن المعنى يسكن فيه كل طير ودابة وروي نحوه عن ابن عباس ومجاهد رضي الله تعالى عنهم، فالمراد حينئذ جعل الليل مسكوناً فيه أخذا له من السكون أي الهدوء والاستقرار كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِتَسْكُنُواْ فِيهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 67‏]‏ وقرأ سائر السبعة إلا الكوفيين ‏{‏جَاعِلِ‏}‏ بالرفع‏.‏ وقرىء شاذاً بالنصب و‏{‏اليل‏}‏ فيهما مجرور بالإضافة، ونصب ‏{‏سَكَناً‏}‏ عند كثير بفعل دل عليه هذا الوصف لا به لأنه يشترط في عمل اسم الفاعل كونه بمعنى الحال أو الاستقبال وهو هنا بمعنى الماضي كما يشهد به قراءة ‏{‏جَعَلَ‏}‏‏.‏

وجوز الكسائي وبعض الكوفيين عمله بمعنى الماضي مطلقاً حملاً له على الفعل الذي تضمن معناه‏.‏ وبعضهم جوز عمله كذلك إذا دخلت عليه أل‏.‏ وآخرون جوزوا عمله في الثاني إذا أضيف إلى الأول لشبهه بالمعرف باللام، وعلى هذا والأول لا يحتاج إلى تقدير فعل بل يكون الناصب هو الوصف، واختار بعضهم كونه الناصب أيضاً لكن باعتبار أن المراد به الجعل المستمر في الأزمنة المختلفة لا الزمان الماضي فقط ولا يجري على هذا مجرى الصفة المشبهة لأن ذلك كما قال بعض المحققين فيما قصد به الاستمرار مشروط باشتهار الوصف بذلك الاستعمال وشيوعه فيه ونصبه في قراءتنا على أنه مفعول ثان لجعل‏.‏

وجوز أن يكون ‏{‏جَعَلَ‏}‏ بمعنى أحدث المتعدي لواحد فيكون نصباً على الحال‏.‏

‏{‏والشمس والقمر‏}‏ معطوفان على ‏{‏اليل‏}‏ وعلى قراءة من جره يكون نصبهما بفعل المقدر الناصب لسكناً أو بآخر مثله، وقيل‏:‏ بالعطف على محل ‏{‏اليل‏}‏ المجرور فإن إضافة الوصف إليه غير حقيقية إذا لم ينظر فيه إلى المضي‏.‏ وقرىء بالجر وهو ظاهر وبالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي مجعولان ‏{‏حُسْبَاناً‏}‏ أي على أدوار مختلفة يحسب فيها الأوقات التي نيط بها العبادات والمعاملات أو محسوبان حسباناً‏.‏ والحسبان بالضم مصدر حسب بالفتح كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب وهذا هو الأصل المسموع في نحو ذلك وما سواه وارد على خلاف القياس كما قيل‏.‏ وعن أبي الهيثم أن ‏{‏حُسْبَاناً‏}‏ جمع حساب مثل ركبان وركاب وشهبان وشهاب؛ وفي إرادته هنا بعد‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى جعلهما كذلك‏.‏ وقال الطبرسي‏:‏ «إلى ما تقدم من فلق الإصابح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً»، والجمهور على الأول وهو الظاهر، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو منزلة المشار إليه وبعد منزلته أي ذلك التسيير البديع الشأن ‏{‏تَقْدِيرُ العزيز‏}‏ أي الغالب القاهر الذي لا ‏(‏يستعصي عليه‏)‏ شيء من الأشياء التي من جملتها تسييرهما على الوجه المخصوص ‏{‏العليم‏}‏ المبالغ في العلم بجميع المعلومات التي من جملتها ما في ذلك التسيير من المصالح المعاشية والمعادية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى جَعَلَ‏}‏ أي أنشأ أو صير ‏{‏لَكُمْ‏}‏ أي لأجلكم ‏{‏النجوم‏}‏ قيل‏:‏ المراد بها ما عدا النيرين لأنها التي بها الإهتداء الآتي ولأن النجم يخص في العرف بما عداهما‏.‏ وجوز أن يدخلا فيها فيكون هذا بياناً لفائدتهما العامة إثر بيان فائدتهما الخاصة، والمنجمون يقسمون النجوم إلى ثوابت وسيارات والسيارات سبع باجماع المتقدمين وثمان بزيادة هرشل عند المنجمين اليوم‏.‏ والثوابت لايعلم عدتها إلا الله تعالى‏.‏ والمرصود كما قال عبد الرحمن الصوفي‏:‏ ألف وخمسة وعشرون بإدخال الضفيرة‏.‏ ومن أخرجها قال‏:‏ هي ألف واثنان وعشرون، ورتبوا الثوابت على ست أقدار وسموها أقداراً متزائدة سدساً سدساً، وجعلوا كل قدر على ثلاث مراتب‏:‏ أعظم وأوسط وأصغر؛ ولهم تقسيمات لها باعتبارات أخر بنوا عليها ما بنوا ولا يكاد يسلم لهم إلا ما لم يلزم منه محذور في الدين‏.‏

‏{‏لِتَهْتَدُواْ بِهَا‏}‏ بدل من ضمير ‏{‏لَكُمْ‏}‏ بإعادة العامل بدل اشتمال كأنه قيل‏:‏ جعل النجوم لاهتدائكم ‏{‏فِى ظلمات البر والبحر‏}‏ أي في ظلمات الليل في البر والبحر، وإضافتها إليهما للملابسة أو في مشتبهات الطرق وسماها ظلمات على الاستعارة، وهذا إفراد لبعض منافعها بالذكر حسبما يقتضيه المقام وإلا فهي أجدى من تفاريق العصا، وهي في جميع ما يترتب عليها كسائر الأسباب العادية لا تأثير لها بأنفسها ولا بأس في تعلم علم النجوم ومعرفة البروج والمنازل والأوضاع ونحو ذلك مما يتوصل به إلى مصلحة دينية‏.‏

قال العلامة ابن حجر عليه الرحمة‏:‏ والمنهي عنه من علم النجوم ما يدعيه أهلها من معرفة الحوادث الآتية في مستقبل الزمان كمجيء المطر ووقوع الثلج وهبوب الريح وتغير الأسعار ونحو ذلك يزعمون أنهم يدركون ذلك بسير الكواكب لاقترانها وافتراقها، وهذا علم استأثر الله تعالى به لا يعلمه أحد غيره فمن ادعى علمه بذلك فهو فاسق بل ربما يؤدي به إلى الكفر، فأما من يقول‏:‏ إن الاقتران أو الافتراق الذي هو كذا جعله الله تعالى علامة بمقتضى ما اطردت به عادته الإلهية على وقوع كذا وقد يتخلف فلا إثم عليه بذلك، وكذا الإخبار عما يدرك بطريق المشاهدة من علم النجوم الذي يعلم به الزوال وجهة القبلة وكم مضى وكم بقي من الوقت فإنه لا إثم فيه بل هو فرض كفاية، وأما ما في حديث «الصحيحين» عن زيد بن خالد الجهني قال‏:‏ ‏"‏ صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في أثر ماء أي مطر كان من الليل فلما انصرف أقبل علينا فقال‏:‏ أتدرون ماذا قال ربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم قال‏:‏ أصبح من عبادي مؤمن وكافر فأما من قال‏:‏ مطرنا بفضل الله تعالى فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب ومن قال‏:‏ مطرنا بنوء كذا فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب ‏"‏‏.‏

فقد قال العلماء‏:‏ إنه محمول على ما إذا قال ذلك مريداً أن النوء هو المحدث أما لو قال ذلك على معنى أن النوء علامة على نزول المطر ومنزله هو الله تعالى وحده فلا يكفر لكن يكره له قول ذلك لأنه من ألفاظ الكفر انتهى‏.‏

وأقول‏:‏ قد كثرت الأخبار في النهي عن علم النجوم والنظر فيها، فقد أخرج ابن أبي شيبة وأبو داود وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد ‏"‏ وأخرج الخطيب عن ميمون بن مهران قال‏:‏ ‏"‏ قلت لابن عباس رضي الله تعالى عنهما أوصني قال أوصيك بتقوى الله تعالى وإياك وعلم النجوم فإنه يدعو إلى الكهانة ‏"‏‏.‏ وأخرج عن علي كرم الله تعالى وجهه قال‏:‏ نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النظر في النجوم وعن أبي هريرة وعائشة رضي الله تعالى عنهما نحوه‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن متعلم حروف أبي جادوراء في النجوم ليس له عند الله تعالى خلاق يوم القيامة ‏"‏‏.‏ وأخرج هو والخطيب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم انتهوا ‏"‏ إلى غير ذلك من الأخبار، ولعل ما تفيده من النهي عن التعلم من باب سد الذرائع لأن ذلك العلم ربما يجر إلى محظور شرعاً كما يشير إليه خبر ابن مهران‏.‏ وكذا النهي عن النظر فيها محمول على النظر الذي كان تفعله الكهنة الزاعمون تأثير الكواكب بأنفسها والحاكمون بقطعية ما تدل عليه بتثليثها وتربيعها واقترانها ومقابلتها مثلاً من الأحكام بحيث لا تتخلف قطعاً على أن الوقوف على جميع ما أودع الله تعالى في كل كوكب مما يمتنع لغير علام الغيوب‏.‏ والوقوف على البعض أو الكل في البعض لا يجدي نفعاً ولا يفيد إلا ظناً المتمسك به كالمتمسك بحبال القمر والقابض عليه كالقابض على شعاع الشمس‏.‏ نعم إن بعض الحوادث في عالم الكون والفساد قد جرت عادة الله تعالى بإحداثه في الغالب عند طلوع كوكب أو غروبه أو مقارنته لكوكب آخر وفيما يشاهد عند غيبوبة الثريا وطلوعها وطلوع سهيل شاهد لما ذكرنا‏.‏ ولا يبعد أن يكون ذلك من الأسباب العادية وهي قد تتخلف مسبباتها عنها سواء قلنا‏:‏ إن التأثير عندها كما هو المشهور عن الأشاعرة أم قلنا‏:‏ إنها المؤثرة بإذن الله تعالى كما هو المنصور عند السلف، ويشير إليه كلام حجة الإسلام الغزالي في العلة‏.‏

فمتى أخبر المجرب عن شيء من ذلك على هذا الوجه لم يكن عليه بأس‏.‏

وما أخرجه الخطيب عن عكرمة أنه سأل رجلاً عن حساب النجوم وجعل الرجل يتحرج أن يخبره فقال عكرمة‏:‏ سمعت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول‏:‏ علم عجز الناس عنه وددت أني علمته‏.‏ وما أخرجه الزبير بن بكار عن عبد الله بن حفص قال‏:‏ خصت العرب بخصال بالكهانة والقيافة والعيافة والنجوم والحساب فهدم الإسلام الكهانة وثبت الباقي بعد ذلك، وقول الحسن بن صالح‏:‏ سمعت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في النجوم‏:‏ ذلك علم ضيعه الناس فلعل ذلك إن صح محمول على نحو ما قلنا‏.‏ وبعد هذا كله أقول‏:‏ هو علم لا ينفع والجهل به لا يضر فما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن‏.‏

‏{‏قَدْ فَصَّلْنَا الآيات‏}‏ أي بينا الآيات المتلوة المذكرة لنعمه سبحانه التي هذه النعمة من جملتها أو الآيات التكوينية الدالة على شؤونه تعالى فصلاً فصلاً ‏{‏لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ معاني الآيات المذكورة فيعملون بموجبها أو يتفكرون في الآيات التكوينية فيعلمون حقيقة الحال، وتخصيص التفصيل بهم مع عمومه للكل لأنهم المنتفعون به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ‏(‏98‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى أَنشَأَكُم مّن نَّفْسٍ واحدة‏}‏ أي آدم عليه السلام وهو تذكير لنعمة أخرى فإن رجوع الكثرة إلى أصل واحد أقرب إلى التواد والتعاطف‏.‏ وفيه أيضاً دلالة على عظيم قدرته سبحانه وتعالى ‏{‏فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ‏}‏ أي فلكم استقرار في الأصلاب أو فوق الأرض واستيداع في الأرحام أو في القبر أو موضع استقرار واستيداع فيما ذكر، وجعل الصلب مقر النطفة والرحم مستودعها لأنها تحصل في الصلب لا من قبل شخص آخر وفي الرحم من قبل الأب فأشبهت الوديعة كأن الرجل أودعها ما كان عنده، وجعل وجه الأرض مستقراً وبطنها مستودعاً لتوطنهم في الأول واتخاذهم المنازل والبيوت فيه وعدم شيء من ذلك في الثاني، وقيل‏:‏ التعبير عن كونهم في الأصلاب أو فوق الأرض بالاستقرار لأنهما مقرهم الطبيعي كما أن التعبير عن كونهم في الأرحام أو في القبر بالاستيداع لما أن كلاً منهما ليس بمقرهم الطبيعي‏.‏ وأخرج جماعة منهم الحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المستقر الرحم والمستودع الأصلاب، وجاء في رواية أن ‏(‏حبرتيما‏)‏ كتب إليه يسأله رضي الله تعالى عنه عن ذلك فأجابه بما ذكر‏.‏

ويؤيد تفسير المستقر بالرحم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُقِرُّ فِى الارحام مَا نَشَاء‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 5‏]‏ وأما تفسير المستودع بالأصلاب فقال شيخ الإسلام‏:‏ إنه ليس بواضح وليس كما قال، فقد ذكر الإمام بعد أن فرق بين المستقر والمستودع «بأن المستقر أقرب إلى الثبات من المستودع، ومما يدل على قوة هذا القول يعني المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زماناً طويلاً والجنين يبقى زماناً طويلاً، ولما كان المكث في الرحم أكثر مما في صلب الأب كان حمل الاستقرار على المكث في الرحم أولى»‏.‏ ويلزم ذلك أن حمل الاستيداع على المكث في الصلب أولى‏.‏ وأنا أقول‏:‏ لعل حمل المستودع على الصلب باعتبار أن الله تعالى بعد أن أخرج من بني آدم عليه السلام من ظهورهم ذريتهم يوم الميثاق وأشهدهم على أنفسهم وكان ما كان ردهم إلى ما أخرجهم منه فكأنهم وديعة هناك تخرج حين يشاء الله تعالى ذلك، وقد أطلق ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اسم الوديعة على ما في الصلب صريحاً‏.‏ فقد أخرج عبد الرزاق عن سعيد بن جبير قال‏:‏ قال لي ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أتزوجت‏؟‏ قلت‏:‏ لا وما ذلك في نفسي اليوم قال‏:‏ إن كان في صلبك وديعة فستخرج‏.‏ وروي تفسير المستودع بالدنيا والمستقر بالقبر عن الحسن وكان يقول‏:‏ يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك ويوشك أن تلحق بصاحبك وينشد قول لبيد‏:‏

وما المال والأهلون إلا وديعة *** ولا بد يوماً أن ترد الودائع

وقال سليمان بن زيد العدوي في هذا المعنى‏:‏

فجع الأحبة بالأحبة قبلنا *** فالناس مفجوع به ومفجع

مستودع أو مستقر مدخلا *** فالمستقر يزوره المستودع

وعن أبي مسلم الأصفهاني أن المستقر الذكر لأن النطفة إنما تتولد في صلبه والمستودع الأنثى لأن رحمها شبيه بالمستودع لتلك النطفة فكأنه قيل‏:‏ وهو الذي خلقكم من نفس واحدة فمنكم ذكر ومنكم أنثى‏.‏ وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبو عمرو ‏(‏فمستقر‏)‏ بكسر القاف وهو حينئذ اسم فاعل بمعنى قار ومستودع اسم مفعول والمراد فمنكم مستقر ومنكم مستودع‏.‏ ووجه كون الأول‏:‏ معلوماً والثاني‏:‏ مجهولاً أن الاستقرار هنا بخلاف الاستيداع والمتعاطفان على القراءة الأولى مصدران أو اسما مكان ولا يجوز أن يكون الأول اسم مفعول لأن استقر لا يتعدى وكذا الثاني ليكون كالأول‏.‏

‏{‏قَدْ فَصَّلْنَا الآيات‏}‏ المبينة لتفاصيل خلق البشر ومن جملتها هذه الآية ‏{‏لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ‏}‏ معاني ذلك، قيل‏:‏ ذكر مع ذكر النجوم ‏{‏يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 97‏]‏ ومع ذكر إنشاء بني آدم ‏{‏يَفْقَهُونَ‏}‏ لأن الإنشاء من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوالهم المختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيراً فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقاً له، وهو مبني على أن الفقه أبلغ من العلم، وقيل‏:‏ هما بمعنى إلا «أنه لما أريد فصل كل آية بفاصلة تنبيهاً على استقلال كل منهما بالمقصود من الحجة وكره الفصل بفاصلتين متساويتين لفظاً للتكرار عدل إلى فاصلة مخالفة تحسيناً للنظم ‏(‏وافتناناً‏)‏ في البلاغة‏.‏ وذكر ابن المنير وجهاً آخر في تخصيص الأولى بالعلم والثانية بالفقه وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر آيات الله تعالى ولا يعتبر بمخلوقاته وكانت الآيات المذكورة أولاً خارجة عن أنفس النظار ‏(‏ومنافية لها‏)‏ إذ النجوم والنظر فيها وعلم الحكمة الإلهية في تدبيره لها أمر خارج عن نفس الناظر ولا كذلك النظر في إنشائهم من نفس واحدة وتقليبهم في أطوار مختلفة وأحوال متغايرة فإنه نظر لا يعدو نفس الناظر ولا يتجاوزها فإذا تمهد هذا فجهل الإنسان بنفسه وأحواله وعدم النظر والتفكر فيها أبشع من جهله بالأمور الخارجة عنه كالنجوم والأفلاك ومقادير سيرها وتقلبها، فلما كان الفقه أدنى درجات العلم إذ هو عبارة عن الفهم نفى ‏(‏بطريق التعريض عن أبشع القبيلتين‏)‏ جهلاً وهم الذين لا يتبصرون في أنفسهم ونفي الأدنى أبشع من نفي الأعلى فخص به أسوأ الفريقين حالاً و‏{‏يَفْقَهُونَ‏}‏ ههنا مضارع فقه الشيء بكسر القاف إذا فهمه ولو أدنى فهم، وليس من فقه بالضم لأن تلك درجة عالية ومعناه صار فقيهاً‏.‏ ثم ذكر أنه إذا قيل‏:‏ فلان لا يفقه شيئاً كان أذم في العرف من قولك‏:‏ فلان لا يعلم شيئاً وكأن معنى قولك‏:‏ لا يفقه شيئاً ليست له أهلية الفهم وإن فهم، وأما قولك‏:‏ لا يعلم شيئاً فغايته عدم حصول العلم له وقد يكون له أهلية الفهم والعلم لو تعلم‏.‏ واستدل على أن التارك للتفكر في نفسه أجهل وأسوأ حالاً من التارك للفكرة في غيره بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَفِى الارض ءايات لّلْمُوقِنِينَ وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 20، 21‏]‏ فخص التبصر في النفس بعد اندراجها فيما في الأرض من الآيات وأنكر على من لا يتبصر في نفسه إنكاراً مستأنفاً» والله تعالى أعلم بأسرار كلامه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء‏}‏ تذكير لنعمة أخرى من نعمه سبحانه الجليلة المنبئة عن كمال قدرته عز وجل وسعة رحمته، والمراد من الماء المطر ومن السماء السحاب أو الكلام على تقدير مضاف أي من جانب السماء‏.‏ وقيل‏:‏ الكلام على ظاهره والإنزال من السماء حقيقة إلى السحاب ومنه إلى الأرض واختاره الجبائي، واحتج على فساد قول من يقول‏:‏ إن البخارات الكثيرة تجتمع في باطن الأرض ثم تصعد وترتفع إلى الهواء وينعقد السحاب منها ويتقاطر ماء وذلك هو المطر المنزل بوجوه، أحدها‏:‏ أن البرد قد يوجد في وقت الحر بل في حميم الصيف ونجد المطر في أبرد وقت ينزل غير جامد وذلك يبطل ما ذكر‏.‏ ثانيها‏:‏ أن البخارات إذا ارتفعت وتصاعدت تفرقت وإذا تفرقت لم يتولد منها قطرات الماء بل البخار إنما يجتمع إذا اتصل بسقف أملس كما في بعض الحمامات أما إذا لم يكن كذلك لم يسل منه ماء كثير فإذا تصاعدت البخارات في الهواء وليس فوقها سطح أملس تتصل به وجب أن لا يحصل منها شيء من الماء‏.‏ ثالثها‏:‏ أنه لو كان تولد المطر من صعود البخارات فهي دائمة الارتفاع من البحار فوجب أن يدوم هناك نزول المطر وحيث لم يكن كذلك علمنا فساد ذلك القول‏.‏ ثم قال‏:‏ والقوم إنما احتاجوا إلى هذا القول لأنهم اعتقدوا أن الأجسام قديمة فيمتنع دخول الزيادة والنقصان فيها وحينئذ لا معنى لحدوث الحوادث إلا اتصاف تلك الذوات بصفة بعد أن كانت موصوفة بصفة أخرى‏.‏ ولهذا السبب احتاجوا في تكوين كل شيء عن مادة معينة‏.‏ وأما المسلمون فلما اعتقدوا أن الأجسام محدثة وأن خالق العالم فاعل مختار قادر على خلق الأجسام كيف شاء وأراد فعند هذا لا حاجة إلى استخراج هذه التكلفات وحيث دل ظاهر القرآن على أن الماء إنما ينزل من السماء ولا دليل على امتناع هذا الظاهر وجب القول بحمله عليه انتهى‏.‏

ولا يخفى على من راجع كتب القوم أنهم أجابوا عن جميع تلك الوجوه وأن الذي دعاهم إلى القول بذلك ليس مجرد ما ذكر بل ألقوا بامتناع الخرق والالتئام أيضاً ووجود كرة النار تحت السماء وانقطاع عالم العناصر عندها ومشاهدة من على جبل شامخ سحاباً يمطر مع عدم مشاهدة ماء نازل من السماء إليه إلى غير ذلك‏.‏ وهذا وإن كان بعضه مما قام الدليل الشرعي على بطلانه وبعضه مما لم يقم الدليل عليه ولم يشهد بصحته الشرع لكن مشاهدة من على الجبل ما ذكر ونحوها يستدعي صحة قولهم في الجملة ولا أرى فيه بأساً، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال‏:‏ ما من قطرة تنزل إلا ومعها ملك، وهو عند الكثير محمول على ظاهره‏.‏

والفلاسفة يحملون هذا الملك على الطبيعة الحالة في تلك الجسمية الموجبة لذلك النزول، وقيل‏:‏ هو نور مجرد عن المادة قائم بنفسه مدبر للقطر حافظ إياه، ويثبت أفلاطون هذا النور المجرد لكل نوع من الأفلاك والكواكب والبسائط العنصرية ومركباتها على ما ذهب إليه صاحب «الإشراق» وهو أحد الأقوال في «المثل الأفلاطونية»، ويشير إلى نحو ذلك كلام الشيخ صدر الدين القونوي في «تفسير الفاتحة»، ونصب ‏{‏مَاء‏}‏ على المفعولية لأنزل، وتقديم المفعول غير الصريح عليه لما مر مراراً‏.‏

‏{‏فَأَخْرَجْنَا بِهِ‏}‏ أي بسبب الماء، والفاء للتعقيب وتعقيب كل شيء بحسبه‏.‏ و‏{‏أَخْرَجْنَا‏}‏ عطف على ‏{‏أَنَزلَ‏}‏ والإلتفات إلى التكلم إظهاراً لكمال العناية بشأن ما أنزل الماء لأجله، وذكر بعضهم نكتة خاصة لهذا الإلتفات غير ما ذكر وهي أنه سبحانه لما ذكر فيما مضى ما ينبهك على أنه الخالق اقتضى ذلك التوجه إليه حتى يخاطب واختيار ضمير العظمة دون ضمير المتكلم وحده لإظهار كمال العناية أي فأخرجنا بعظمتنا بذلك الماء مع وحدته ‏{‏نَبَاتَ كُلّ شَىْء‏}‏ أي كل صنف من أصناف النبات المختلفة في الكم والكيف والخواص والآثار اختلافاً متفاوتاً في مراتب الزيادة والنقصان حسبما يفصح عنه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يسقى بِمَاء واحد وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِى الاكل‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 4‏]‏ «والنبات كالنبت وهو على ما قال الراغب ما يخرج من الأرض من الناميات سواء كان له ساق كالشجر أو لم يكن له ساق كالنجم لكن اختص في التعارف بما لا ساق له بل قد اختص عند العامة بما تأكله الحيوانات، ومتى اعتبرت الحقائق فإنه يستعمل في كل نام نباتاً كان أو حيواناً أو إنساناً»‏.‏ والمراد هنا عند بعض المعنى الأول‏.‏

وجعل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً‏}‏ شروعاً في تفصيل ما أجمل من الإخراج وقد بدأ بتفصيل حال النجم وضمير ‏{‏مِنْهُ‏}‏ للنبات، والخضر بمعنى الأخضر كأعور وعور، وأكثر ما يستعمل الخضر فيما تكون خضرته خلقية، وأصل الخضرة لون بين البياض والسواد وهو إلى السواد أقرب ولذا يسمى الأخضر أسود وبالعكس، والمعنى فأخرجنا من النبات الذي لا ساق له شيئاً غضاً أخضر وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة‏.‏ وجوز عود الضمير إلى الماء ومن سببية‏.‏ وجعل أبو البقاء هذا الكلام حينئذ بدلاً من ‏{‏أَخْرَجْنَا‏}‏ الأول، وذكر بعض المحققين أن في الآية على تقدير عود الضمير إلى الماء معنى بديعاً حيث تضمنت الإشارة إلى أنه تعالى أخرج من الماء الحلو الأبيض في رأي العين أصنافاً من النبات والثمار مختلفة الطعوم والألوان وإلى ذلك نظر القائل يصف المطر‏:‏ يمد على الآفاق بيض خيوطه *** فينسج منها للثرى حلة خضرا

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نُّخْرِجُ مِنْهُ‏}‏ صفة لخضراً، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة بما فيها من الغرابة، وجوز أن يكون مستأنفاً أي نخرج من ذلك الخضر ‏{‏حَبّاً مُّتَرَاكِباً‏}‏ أي بعضه فوق بعض كما في السنبل وقرىء ‏{‏يَخْرُجُ مِنْهَا حُبَّ‏}‏ ‏{‏مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النخل‏}‏ جمع نخل كما قال الراغب والنخل معروف ويستعمل في الواحد والجمع»، وهذا شروع في تفصيل حال الشجر إثر بيان حال النجم عند البعض‏.‏ فالجار والمجرور خبر مقدم‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مِن طَلْعِهَا‏}‏ بدل منه بدل بعض من كل بإعادة العامل‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قنوان‏}‏ مبتدأ؛ وحاصلة من طلع النخيل قنوان، وجوز أن يكون الخبر محذوفاً لدلالة ‏{‏أَخْرَجْنَا‏}‏ عليه وهو كون خاص وبه يتعلق الجار والتقدير ومخرجه من طلع النخل قنوان‏.‏ وعلى القراءة السابقة آنفاً يكون ‏{‏قنوان‏}‏ معطوفاً على ‏(‏حب‏)‏ وقيل‏:‏ المعنى وأخرجنا من النخل نخلاً من طلعها قنوان ‏(‏أو‏)‏ ومن النخل شيئاً من طلعها قنوان، وهو جمع قنو بمعنى العذق وهو للتمر بمنزلة العنقود للعنب‏.‏ وتثنيته أيضاً قنوان ولا يفرق بين المثنى والجمع إلا الإعراب، ولم يأت مفرد يستوي مثناه وجمعه إلا ثلاثة أسماء هذا وصنو وصنوان ورئد ورئدان بمعنى مثل قاله ابن خالويه، وحكى سيبويه شقد وشقدان‏.‏ وحش وحشان للبستان نقله الجلال السيوطي في «المزهر»‏.‏ وقرىء بضم القاف وبفتحها على أنه اسم جمع لأن فعلان ليس من زنات التكسير‏.‏

‏{‏دَانِيَةٌ‏}‏ أي قريبة من المتناول كما قال الزجاج‏.‏ واقتصر على ذكرها عن مقابلها لدلالتها عليه وزيادة النعمة فيها؛ وقيل‏:‏ المراد دانية من الأرض بكثرة ثمرها وثقل حملها والدنو على القولين حقيقة، ويحتمل أن يراد به سهولة الوصول إلى ثمارها مجازاً‏.‏ ‏{‏وجنات مّنْ أعناب‏}‏ عطف على ‏{‏نَبَاتَ كُلّ شَىْء‏}‏ أي وأخرجنا به جنات كائنة من أعناب، وجعله الواحدي عطفاً على ‏{‏خُضْرًا‏}‏‏.‏ وقال الطيبي‏:‏ الأظهر أن يكون عطفاً على ‏{‏حَبّاً‏}‏ لأن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏نَبَاتَ كُلّ شَىْء‏}‏ مفصل لاشتماله على كل صنف من أصناف النامي، والنامي الحب والنوى وشبههما‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً‏}‏ الخ تفصيل لذلك النبات، وهو بدل من ‏{‏فَأَخْرَجْنَا‏}‏ الأول بدل اشتمال، وقيل‏:‏ وهذا مبني على أن المراد بالنبات المعنى العام وحينئذٍ لا يحسن عطفه عليه لأنه داخل فيه وإن أريد ما لا ساق له تعين عطفه عليه لأنه غير داخل فيه وتعين أن يقدر لقوله سبحانه ‏{‏وَمِنَ النخل‏}‏ فعل آخر كما أشير إليه فتدبر‏.‏

وقرأ أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود والأعمش ويحيى بن يعمر وأبو بكر عن عاصم ‏{‏وجنات‏}‏ بالرفع على الإبتداء أي ولكم أو ثم جنات أو نحو ذلك، وجوز الزمخشري أن يكون على العطف على ‏{‏قنوان‏}‏ قال في «التقريب» وفيه نظر لأنه إن عطف على ذلك فمن أعناب حينئذ إما صفة ‏{‏جنات‏}‏ فيفسد المعنى إذ يصير المعنى وحاصلة من النخيل جنات حصلت من أعناب، وإما خبر لجنات فلا يصح لأنه يكون عطفاً لها على مفرد ويكون المبتدأ نكرة فلا يصح، وفي «الكشف» أن الثاني بعيد الفهم من لفظ الزمخشري وإن أمكن الجواب بأن العطف على المخصص مخصص كما قال ابن مالك، واستشهد عليه بقوله‏:‏

عندي اصطبار وشكوى عند قاتلتي *** فهل بأعجب من هذا امرؤ سمعاً

والظاهر الأول لكنه عطف جملة على جملة ويقدر ومخرجة من الخضر أو من الكرم أو حاصلة جنات من أعناب دون صلته لأن التقييد لازم كما حقق في عطف المفرد وحده، ولا يخفى أن هذا تكلف مستغنى عنه، ولعل زيادة الجنات هنا كما قيل من غير اكتفاء بذكر اسم الجنس كما فيما تقدم وما تأخر لما أن الانتفاع بهذا الجنس لا يتأتى غالباً إلا عند اجتماع طائفة من أفراده‏.‏

‏{‏والزيتون والرمان‏}‏ نصب على الاختصاص لعزة هذين الصنفين عندهم أو على العطف على ‏{‏نَبَاتُ‏}‏‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ متشابه‏}‏ إما حال من ‏{‏الزيتون‏}‏ لسبقه اكتفى به عن حال ما عطف عليه والتقدير والزيتون مشتبهاً وغير متشابه والرمان كذلك، وإما حال من ‏{‏الرمان‏}‏ لقربه ويقدر مثله في الأول‏.‏ وأياً ما كان ففي الكلام مضاف مقدر وهو بعض أي بعض ذلك مشتبهاً وبعضه غير متشابه في الهيئة والمقدار واللون والطعم وغير ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرة صانعها وحكمة منشيها ومبدعها جل شأنه وإلا كان المعنى جميعه مشتبه وجميعه غير متشابه وهو غير صحيح‏.‏ ومن الناس من جوز كونه حالاً منهما مع التزام التأويل‏.‏ وافتعل وتفاعل هنا بمعنى كاستوى وتساوى‏.‏ وقرىء ‏{‏والرمان متشابها وَغَيْرَ متشابه‏}‏‏.‏

‏{‏انظروا‏}‏ نظر اعتبار واستبصار ‏{‏إلى ثَمَرِهِ‏}‏ أي ثمر ذلك أي الزيتون والرمان والمراد شجرتهما وأريد بهما فيما سبق الثمرة ففي الكلام استخدام‏.‏ وعن الفراء أن المراد في الأول‏:‏ شجر الزيتون وشجر الرمان وحينئذ لا استخدام، وأياً ما كان فالضمير راجع إليها بتأويله باسم الإشارة‏.‏ ورجوعه إلى كل واحد منهما على سبيل البدل بعيد لا نظير له في عدم تعيين مرجع الضمير‏.‏ وجوز رجوع الضمير إلى جميع ما تقدم بالتأويل المذكور ليشمل النخل وغيره مما يثمر ‏{‏إِذَا أَثْمَرَ‏}‏ أي إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضئيلاً لا يكاد ينتفع به‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏ثَمَرِهِ‏}‏ بضم الثاء وهو جمع ثمرة كخشبة وخشب أو ثمار ككتاب وكتب ‏{‏وَيَنْعِهِ‏}‏ أي وإلى حال نضجه أو إلى نضيجه كيف يعود ضخماً ذا نفع عظيم ولذة كاملة‏.‏

وهو في الأصل مصدر ينعت الثمرة إذا أدركت، وقيل‏:‏ جمع يانع كتاجر وتجر‏.‏ وقرىء بالضم وهي لغة فيه‏.‏ وقرأ ابن محيصن ‏{‏ويانعه‏}‏، ولا يخفى أن في التقييد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ‏}‏ على ما أشرنا إليه إشعاراً بأن المثمر حينئذ ضعيف غير منتفع به فيقابل حال الينع‏.‏ ويدل كمال التفاوت على كمال القدرة‏.‏ وعن الزمخشري أنه قال فإن قلت هلا قيل‏:‏ إلى غض ثمره وينعه‏؟‏ قلت‏:‏ في هذا الأسلوب فائدة وهي أن الينع وقع فيه معطوفاً على الثمر على سنن الاختصاص نحو قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَجِبْرِيلَ وميكال‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 98‏]‏ للدلالة على أن الينع أولى من الغض» وله وجه وجيه وإن خفي على بعض الناظرين‏.‏

‏{‏إِنَّ فِى ذلكم‏}‏ إشارة إلى ما أمروا بالنظر إليه‏.‏ وما في اسم الإشارة من معنى البعد لما مر غير مرة ‏{‏لاَيَاتٍ‏}‏ عظيمة أو كثيرة دالة على وجود القادر الحكيم ووحدته ‏{‏لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي يطلبون الايمان بالله تعالى كما قال القاضي أو مؤمنون بالفعل، وتخصيصهم بالذكر لأنهم الذين انتفعوا بذلك دون غيرهم كما قيل ووجه دلالة ما ذكر على وجود القادر الحكيم ووحدته أن حدوث هاتيك الأجناس المختلفة والأنواع المتشعبة من أصل واحد وانتقالها من حال إلى حال على نمط بديع لا بد أن يكون بإحداث صانع يعلم تفاصيلها ويرجح ما تقتضيه حكمته من الوجوه الممكنة على غيره ولا يعوقه ضد يعانده أو ند يعارضه، ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر هذه النعمة الجليلة الدالة على توحيده وبخ من أشرك به سبحانه ورد عليه

‏[‏بم بقوله عز شأنه‏:‏